منبر إعلامي متجدد يهتم بشؤون وقضايا جهة الصحراء
trono

السيكولوجية الخفية للموظف العمومي في الجماعات الترابية: خوف صامت ومصير مهني معلق

إضافة: بقلم محمد مبروك

يُنظر إلى موظف الجماعات الترابية عادةً على أنه يتمتع باستقرار وظيفي نسبي، وأن عمله محاط بروتين إداري واضح. إلا أن الواقع يكشف عن صورة أكثر تعقيدًا، حيث تتداخل الضغوط النفسية اليومية مع متغيرات سياسية وإدارية دقيقة، تجعل حياة الموظف العمومي داخل الجماعات الترابية رحلة مستمرة بين القلق، والخوف من الخطأ، والشعور بأن مصيره مرتبط بالمحيط السياسي الذي يتحرك فيه.

الأمان الوظيفي… ظل يختبئ وراءه القلق

التوظيف في الجماعات الترابية يوفر راتبًا ثابتًا واستقرارًا نسبيًا مقارنة بالقطاع الخاص، لكنه يأتي مصحوبًا بأمان مقيد. الموظف يجد نفسه مرتبطًا بوظيفته بشكل كبير، إذ أن أي خطوة خارج المسار التقليدي أو أي قرار غير محسوب قد يؤثر على مساره المهني. هذا الارتباط يولد شعورًا مزدوجًا: الأمان من جهة، والخوف والرهبة من جهة أخرى، خصوصًا مع تقدم العمر وصعوبة تغيير المسار أو البحث عن بدائل خارج الإدارة.

الخوف من الخطأ المهني في محيط ملغوم بالسياسة

من أبرز التحديات النفسية التي يعيشها الموظف العمومي في الجماعات الترابية هو الخوف من الخطأ المهني، سواء في التوقيعات، أو القرارات الإدارية، أو تطبيق القوانين والأنظمة. إضافة إلى ذلك، فإن البيئة المحيطة غالبًا ما تكون ملغومة بتوازنات المنتخبين الذين يمتلكون سلطة غير مباشرة على بعض الإجراءات الإدارية. هذا الوضع يجعل كل خطوة محسوبة، وكل تصرف مراقبًا، ويولد شعورًا دائمًا بالاحتياط النفسي المفرط، وكأن كل قرار قد يكون له تبعات سياسية أو إدارية غير متوقعة.

التقدم في السن وتآكل الخيارات

كلما تقدّم الموظف في العمر داخل الجماعات الترابية، ازدادت وطأة الضغط النفسي. فالخيارات المتاحة في بداية المسار المهني لتغيير المنصب أو المسار تقل مع مرور الوقت، ما يجعل الموظف مرتبطًا وظيفيًا وماديًا بالكرسي الإداري. مع هذه المعادلة، يصبح البقاء هو الخيار الوحيد للنجاة، ويبدأ الخوف من المستقبل المهني في السيطرة على حياته اليومية، متجاوزًا الرغبة في التطور أو التجديد.

الترقية الغامضة والمسار المهني المجهول

غالبًا ما تكون الترقية داخل الجماعات الترابية نتيجة لمجموعة من العوامل المعقدة، تشمل الخبرة، العلاقات، أحيانًا التوازنات السياسية المحلية، أو توقعات المنتخبين. هذا يخلق حالة من الارتباك النفسي، إذ لا يشعر الموظف أن جهده مضمون النتائج، وأن مستقبله ليس في يده بالكامل، ما يضاعف شعور القلق والإحباط، ويؤدي إلى فقدان الإحساس بالتحفيز المهني.

الضغط بين الواجب الإداري ومتطلبات المنتخبين

العمل في الجماعات الترابية يتطلب تحقيق توازن دقيق بين الواجب الإداري الرسمي ومتطلبات المنتخبين المحليين، الذين غالبًا ما يكون لهم تأثير غير مباشر على القرارات التنفيذية. هذا التوازن يولد ضغطًا نفسيًا مضاعفًا، إذ يجب على الموظف الالتزام بالمساطر والقوانين، مع مراعاة التوجهات السياسية المحلية، وتفادي أي موقف قد يضعه في مواجهة غير مرغوبة مع المنتخبين أو المسؤولين المباشرين.

الروتين والاحتراق الوظيفي الصامت

الروتين اليومي، كثرة الإجراءات الإدارية، وضغوط التقارير والمراقبة، كلها عوامل تؤدي إلى ما يمكن تسميته بـ”الاحتراق الوظيفي الصامت”. يظهر هذا الاحتراق في:

1. إرهاق نفسي مستمر نتيجة التكرار والضغط؛

2. تراجع المبادرة والإبداع بسبب الخوف من الخطأ؛

3. الانسحاب الداخلي الذي يجعل الموظف يؤدي مهامه بلا حماس، فقط لتجنب العقوبة أو اللوم.

الصورة الاجتماعية وتأثيرها النفسي

يعيش الموظف العمومي في الجماعات الترابية أيضًا تحت نظر المجتمع، الذي غالبًا ما يربطه بالبطء أو الجمود، رغم أن الواقع أكثر تعقيدًا. هذه الصورة تزيد من القلق النفسي، وتخلق صراعًا داخليًا بين الرغبة في إثبات الكفاءة والخوف من الحكم المسبق أو الانتقاد.

غياب الدعم النفسي المؤسسي

رغم كل هذه الضغوط، لا توجد غالبًا آليات واضحة لدعم الموظف النفسي داخل الجماعات الترابية، سواء عبر الإرشاد النفسي أو فضاءات الإصغاء أو المواكبة المهنية. أي اضطراب نفسي أو قلق مهني يُنظر إليه على أنه ضعف شخصي، ما يزيد من شعور الموظف بالعزلة والمسؤولية الفردية عن كل خطأ محتمل.

الخوف من السقوط والمصير المعلق

الموظف في الجماعات الترابية يعيش حالة مستمرة من الخوف من السقوط، خصوصًا مع تقدمه في العمر، حيث يصبح من الصعب الرجوع إلى الوراء أو تغيير المسار المهني. كل خطوة محسوبة، وكل قرار مراقب، والمصير يبدو معلقًا بين الالتزام بالواجب الإداري والتعامل مع بيئة سياسية دقيقة، تجعل كل تصرف محاطًا بالتوجس والرهبة.

خلاصة واستشراف المستقبل

السيكولوجية الخفية للموظف العمومي في الجماعات الترابية ليست مجرد تحليل نفسي، بل واقع ملموس يتطلب الاهتمام به من قبل الإدارة والسياسات العمومية. تحسين المناخ النفسي للموظف يتطلب:

ترسيخ العدالة في الترقيات والمسارات المهنية؛

توفير دعم نفسي مؤسسي ومواكبة مستمرة؛

خلق مسارات واضحة للتوجيه والتدريب؛

الحد من تأثير التوازنات السياسية المباشرة على القرارات اليومية.

الموظف الذي يشعر بالأمان النفسي ويُمنح القدرة على العمل بثقة، هو الموظف الذي يستطيع خدمة المرفق العمومي بفعالية وابتكار. أما الموظف المحاصر بالخوف والرهبة، فهو يؤدي مهامه بالحد الأدنى، ويعيش حياته المهنية كرحلة نجاة لا كمسار بناء.